أولاً – قراءة في الواقع

١. منذ استقلاله يعاني لبنان من تجاذبات وصراعات دورية، ضمن حدوده أوعبرها، ألزمته أحياناً غُرَفَ العناية الفائقة ودَفَع من جرَّائها أثماناً باهظة بالأرواح والأرزاق، وما زالت بين الحين والآخر تهدّدُ وجوده، وتُقَوِّض وحدةَ مجتمعِه، وتشُلُّ عملَ مؤسساتِه وتعطِّل آليات الدستور وأحكامه. وتجلَّت النتائج بتباطء مسيرة التقدم وإعادة الإعمار، وتشويه لمعالم الطبيعة والمدن، وتراجع لموقع لبنان على شتّى الصُعُد مقارنةً بدول الجوار والبلدان الناشئة، ما سَرَّع من هجرة الشبابِ والنخبِ الفكرية والمهنية والحرفية.

٢. إزاء هذا الواقع، وفي ظلِّ أخطار إقليمية مُحْدِقَة، لا بُدّ لمبادرات وطنية وتشريعاتٍ مؤآتية تراعي المواثيق، وتُرسِّخ الوفاق الوطني وتَشدُّ عزمَ شعبٍ طغا اليأسُ على آماله بأن يسير لبنان في طليعة الركب الحضاري، مبادرات تعالج تَرَهُّل المؤسسات الوطنية من تشريعية وإجرائية ورقابية، وما يشوبها من عجزٍ وفراغ في ظلّ فساد مُستَشرٍ، فتوقِف العبثَ بالأموالِ العامة في غياب الموازنات، وتطرحُ حلولاً ناجِعة لعقبات التنمية بأبعادها الإنسانية والسياسية والثقافية والاجتماعية سعياً لتوفيرحياة آمنة للبنانيين وتفعيل الاقتصاد الوطني. ولهذه المبادرات أن تَطْرَحها أحزابٌ وتيَّاراتٌ فاعلة تُمثّل الشعبَ عبر نظامٍ انتخابي مُنصِف يؤمِّن تداول السلطة، وقادةٌ وطنيّون يملكون الرؤيةَ والطاقة للعمل تحت سلطة القانون عبر مؤسساتِ دولة قادرة تحظى بمؤازرة المجتمع الأهلي.

٣. للإصلاح السياسي واحترام المعايير الدستورية وانتظام عمل المؤسسات وقع عميق على حياةِ اللبنانيين بما يَمُتّ إلى رِزقِهم، ومسيرةِ مجتمعِهم، ومستقبلِ أولادِهم، وحقِّهم بالعملِ والعيشِ الكريم في وطنِهم، لا كَمُهاجِرين ومُهَجَّرين من قاصِي المعمورةِ لدانيها. لذا وجب التصدّي للعوائق التي تحول دون بناء دولة القانون نظراً لعضوية العلاقة بينَ الإطارِ المؤسساتي والنظام السياسي من جهة، ورفاهية المواطنين الناتجة عن الواقعِ الاقتصادي والاجتماعي والإنمائي والتربوي والثقافي والبيئي، من جهةٍ أُخرى. وكيف لا يكون ذلك في لبنانَ وركيزةُ اقتصادِه قطاعُ الخدماتِ من مصارفَ، وسياحةٍ، وتجارةٍ، ونقلٍ، والذي يتأثّر بشكلٍ حثيثٍ بالأمنِ والاستقرارِ وسلطةِ القانون وانتظامِ المؤسسات وعملِها. فما الحالُ إذاً والوطنُ يتخبَّط في عاصفةٍ إقليميةٍ عارمةٍ، تنال منه ارتداداتُ حربِ سوريا وأحداث اليمن والعراق والبحرَين، ويشهدُ نزوحاً بشرياً بحجمٍ غيرَ مسبوقٍ إلى أراضيه، ويعاني من تداعياتِ ركودٍ اقتصادي إقليمي نتيجةَ انهيار أسعارِ النفط، لتَنْضَب من جرّاءِ كلِّ هذا، ومن فقدانِ الثقةِ بعملِ المؤسسات، حركةُ الاستثمارِ، وتَتَنامى هجرةُ ذوي المهاراتِ. أضِف لذلك ما عانى لبنان من فترات شلل، من فراغ رئاسي، وحكومات لا تتعدى صلاحياتها تصريف الأعمال، وبرلمان مُمِدّد الولاية، منكَفئ الدور كسلطةٍ تشريعيَّةٍ ورقابية، فيلجأ إلى ما سُمِّيَ “بتشريعِ الضرورة” عند بروز الأخطار (مثلاً عندما انقضت المٌدَّةُ المتاحةُ دونَ إبرامِ معاهداتٍ دوليةٍ على صلةٍ بالقطاعِ المالي ما كادَ يضعُ لبنانَ في مرمى عقوباتِ تبييضِ الأموالِ وتمويلِ الإرهابِ).  

٤.       على لبنان الحذر ألّا تغدو إدارة الشأن العام أشبه بمُمارساتِ الدولِ الفاشلة، العاجزة عن تأمين الحاجات الأساسية لاستدامةِ مجتمعٍ منظّمٍ. فدولةٌ غير قادرة على ضمان سلامة المواطن وضبط حدود الأمة هي دولة عاجزة. دولةٌ غير قادرة بعد ربع قرن على انتهاء الحرب العبثية على توفير مياه الشفّة وتوليد الطاقة الكهربائية الكافية للأُسَرِ والمؤسسات وإدارة حركة المرور والنقل العام ووقف التدهور البيئي هي دولة عاجزة. دولةٌ تسمحُ، الشهرَ بعدَ الشهرِ، بتراكمِ تلالِ النفاياتِ على أرصفةِ المدن وفي ساحاتها ونثرها في الوديان والأنهر والغابات، وتُقْحِمُ بنِزاعِ الطوائفِ في حاوياتِ القُمامَةِ ومطامِرِها هي دولة عاجزة. دولةٌ لا تعمل على تقليص عجزٍ مزمنٍ ودينٍ متنامٍ وإقرارِ موازنةٍ للحدِّ من الإنفاق المُفْرِط والعقيم لإتْخام الإدارات بالمحاسيب والأزلام إحكاماً للنفوذِ على مقاليدِ السُلطة، هي دولة عاجزة. دولةٌ تسمح لأي صاحب مَطْلَبٍ، مهما حَقَّ، بإقفال الطرق الرئيسية ولا تَرْدَع الاحتلال غير المشروع للأملاك العامة هي دولة عاجزة. دولةٌ غير قادرة على إرساءِ سياسةٍ وطنيةٍ جامعة تجاه النزوح السوري العارم هي دولة عاجزة. فليس من خيارٍ سوى العبور بلبنان إلى دولة القانون، لرفعِه من دوامة العجز والانهيار عبر مبادراتِ إصلاحِية لمواجهة الصعابِ والأزماتِ التي، على جسامتِها، لا تَفتقرُ للحلولِ، وأهَمُّها صونِ الكيان، وتطبيق الدستورِ وترميمِ المؤسسات، وحمايةِ الإنسان، وإصلاح الإدارة ومكافحة الفساد، وتأمين استقلالية القضاء، وإرساء قواعد اللامركزية الإدارية، واحتواء تداعيات النزوحِ السوري.

ثانياً – الإصلاح المؤسساتي والاداري

٥.    الإصلاح المؤسساتي والاداري عملٌ أساسي لإعادة بناء وتمكين القطاع العام في مختلف مرافقه الإجرائية والإدارية والرقابية المسؤولة عن إنفاذ السياسات العامة ضمن الأطر القانونية والتنظيمية المعتمدة. إن رفع مستوى الكفاءات البشرية في الإدارات والمؤسسات العامة المترهلة والمهمَّشة من حيث التأثير والفاعلية، شرطٌ ضروريٌ لنجاح الإصلاح وتنفيذ القرارات الحكومية ودفع مسيرة الإنماء. وفي هذا السياق، وجب التنبه لما يمثله الجسم السياسي من معوقات نحو التحول الديمقراطي، وإلى اشكاليات العلاقة بينه وبين الإدارة العامة. ولقد آن الأوان أن توضع حيِّز التنفيذ “استراتيجية الإصلاح والتنمية في الإدارة العامة” والتي تُركِّز في مرحلة أولى على الوزارات والإدارات الأساسية في القطاع الحكومي. كما يجب في مرحلة لاحقة توسيع نطاق الإصلاح ليشمل جميع مؤسسات الدولة عبر تحديث هيكلية جهاز القطاع العام الكلية على أساس المهام التي تضطّلِع بها المؤسسات حالياً. وفي هذا الإطار، يمكن تحسين الانتاجية عبر ترشيق وترشيد القطاع العام وإعادة انتشار الفائض وتحفيز الكفاءات في جسم ناهز حجمه ٢٠٪ من مجمل القوى العاملة في اقتصادٍ عِمادُه القطاع الخاص!

٦.    كما أنه من المهام الأساسية متابعة الإصلاح الإداري في إطار برامج “الحكومة الإلكترونية” التي تسمح للمواطنين بتنفيذ المعاملات الرسمية عبر الإنترنيت. ويمكن العمل بوتيرة سريعة لإنجاز مشروع كامل للحكومة الإلكترونية لما في ذلك من تأثير على رفع كفاءة وفعالية الجهاز الحكومي، والمساهمة في آنٍ معاً بإبعاد شبح الفساد عن ممارساته عبر تقليص دور الوسطاء، وتخفيف الأعباء على المواطنين، إضافة إلى إرساء الأُسس لمجتمع تكون “المعرفة” من أهمّ ركائزه. وقد أوكلت مسودّة “استراتيجية الحكومة الإلكترونية” عملية “بوابة الحكومة الإلكترونية” إلى مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية. فبهدف تفعيل خدمات الحكومة الإلكترونية واستعمالها بشكل فعَّال، يتوجب دعم القطاع من خلال تمويل حكومي وافىٍ واعتماد التكنولوجيا المؤاتية لتحديث الإدارة العامة عبر الأتمتة في الوزارات ــ وقد أعلن عددٌ منها الاستعداد لتقديم الخدمات الإلكترونية للمواطنين مباشرةً، ما يدحض أي عذرٍ للتأخّر في تقديمها. كما يجب تفعيل دور المجلس الاقتصادي والاجتماعي عبر إحياء وترشيق الهيئات الثلاثية التمثيل المؤلفة من العمال وأرباب العمل والدولة، ليلعب الدور المهم المناط به كمساحة وطنية للنقاش والحوار.

٧.     ومن ركائز الإصلاح ضرورة تَرميمُ الماليةِ العامة، وعمودُها الفقري موازنةُ الدولة، والتي هي مُغَيَّبة كُلياً إذ لم يتم إقرارُها أو تقديمُ “قطع حسابٍ” بصددها طوال عقدٍ ونَيِّف تحت شتَّ الحجَجِ والذرائع.  فالموازنةُ العامة ليست من الكماليات، بل أداةٌ إلزامية لتجسيد الرؤًى الإقتصادية للحكومات عبر تَحديد أولويات الإنفاق بناءً على معاييرَ وبرامِجَ عملٍ تَتَوَخّى تحقيقَ النمو الإقتصادي والتنمية البشرية. ولوقف العبث بالمال العام يجب إقرارُ الموازناتِ والسماح للبرلمان بالقيام بدورِه الرقابي، خاصة في ظل فسادٍ مُستشرٍ لدرجةٍ لم يعهدها لبنانُ في تاريخِه المعاصر. وتأكيداً لأهميتها، يخَوِّل الدستورُ رئيسَ الجمهورية أن يُصْدِرَ الموازنة إن لم يُقِرَّها مجلسُ النوابِ بأُفولِ أول شهرٍ من السنة (هذا إن أوْضَعَتْها الحكومةُ المجلِسَ قبل تشرين الأول من العام المنصرم). كما خَوَّل الدستورُ الرئيسَ طَلَب حلّ مجلسِ النواب “في حالِ ردِّ الموازنة برمَّتِها بقصدِ شَلِّ الحكومةِ عن العمل”.

ثالثاً – التصدّي لآفة الفساد

٨. ان السياسات النفعية والزبائنية أساس ويل وبلاء، وعلى المواطنين الشرفاء مواجهتها بالوسائل والأساليب المشروعة للحدّ من تفشي وباء الفساد في الاقتصاد والادارة العامة. كما لا يمكن استمرار الشعور بأن الدولة غائبة والسلطة مبعثرة، وان تبقى المساءلة والمحاسبة بوصفها أدوات ناظمة وشفافة ورقيبة على الفساد العام مغيَّبة، وأن نبقى غير مستعدين للولوج الى عالم المستقبل نتيجة استشراء الفساد في المجتمع وصفوف بعض النافذين والمقتدرين الذين سَهّل لهم نظام الحصص المذهبية والطائفية تقاسم عائدات الدولة للإثراء غير المشروع عبر العبث بالقانون والدستور، وتجاهل ارادة المواطنين ومصالحهم بل العمل ضد مصالح الوطن. فالفساد الذي يعاني منه لبنان في الإدارة العامة على ازدياد عامًا بعد آخر، بسبب هيمنة ثقافة النفوذ وسوء استخدام السلطة السياسية واستباحة المال والملك والحق العام. لذا، فالعمل على محاربة جميع أشكاله، الظاهرة منها والخفية، هو من أولويات الإصلاح، وذلك من خلال:

  • إعداد برنامج شامل لمكافحة الفساد لاعتماد الشفافية في الإدارة العامة، بما في ذلك عبر إعادة صياغة القوانين المتعلقة بالعروض.
  •    تأسيس وحدات خاصة من أجل تتبع الفساد في جميع المؤسسات والهيئات، والاستفادة من مؤسسات مستقلة للمتابعة والرقابة الخارجية إلى جانب الرقابة الداخلية.

  •   تأسيس وحدة للتنسيق بين جميع المؤسسات والهيئات المنوط بها مهام ملاحقة الفساد وضبطه والتحقيق فيه، لتوحيد السياسات التي تُتبع لمواجهة الفساد، والتدابير التي تُتخذ في هذا الصدد، وللمتابعة المستمرة لاستراتيجية مكافحة الفساد.
  •   اعتماد معايير خاصة لتعيين موظفي الإدارة العامة العليا التي هي أكثر عرضة للممارسات الفاسدة، وإخضاعهم للرقابة في إطار ضوابط خاصة.

  •   تفعيل وتسهيل عمل النيابات العامة المسؤولة عن ملاحقة قضايا الفساد في الإدارة العامة.

 

  •   إحداث نظام في ملاك وزارة المالية يقوم بالتحقق من صحة تقارير الذمة المالية الخاصة بموظفي القطاع العام.

    •    إضفاء صيغة أكثر قانونية وعملية للصلاحية التي يخولها الدستور للمجلس النيابي والتي يستطيع بموجبها الطلب من ديوان المحاسبة القيام بتدقيق الحسابات.

  •   السماح لمنظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال مكافحة الفساد بالمشاركة في كشف الفساد، والاستفادة من جهودها في هذا المجال بشكل مباشر.
  •   البحث في امكانية انضمام لبنان إلى تحالف دولي يُمَكِّن من رفع مستوى الأداء في مكافحة الفساد مثل تحالف الدول المناهضة للفساد (GRECO) أو غيرها، والاهتمام بالتعاون الدولي من أجل القضاء على الفساد.

  • والأهم هو إرساء ونشر ثقافة الشفافية، ومحاربة وفضح الفساد في كل موقع وبجميع أشكاله ووجوهه.

 

رابعاً – الحقوق والحريات العامة

٩. إيمان الأفراد بأن حقوقهم وحرياتهم مصانة هو من عناصر الثقة في المجتمع لما يمثل هذا الإيمان من قوة أساسية محركة لكافة الديناميات الديموقراطية والاجتماعية والاقتصادية، كما هو شرط أساسي من شروط إقرار السلام والاستقرار الاجتماعيين. لذا يجب السعى إلى:

  •     ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتنفيذ المعايير الواردة في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي لبنان طرفٌ فيها، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ومبادئ باريس لحقوق الإنسان، والصيغة النهائية لاتفاقية هلسنكي.
  •    ضمان حرية التفكير والتعبير عن الأفكار بحرية، واعتبار الاختلافات “غنى فكريًا”.

  •    ضمانة حرية العقيدة والوجدان والنظر إلى الدين كأحد أهم المؤسسات الإنسانية، وإلى قبول الاختلاف الديني باعتباره شرطًا للديموقراطية، ورفض استغلال القيم الدينية المقدسة والانتماءات المذهبية في السياسة.
  •    التأكيد على الحق الذي شرَّعَه القانون في حريّة الوصول إلى المعلومات لجميع المواطنين.

  •    الدفاع عن الصحافة الحرة بما فيها الصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وعدم السماح باحتكارها، ما قد يتطلَّب إعادة النظر في القوانين الخاصة بوسائل الإعلام التي لا تتفق مع متطلبات النظام الاجتماعي الحر، وفي مقدمتها مواد الدستور المعنية.

  •    التطبيق الكامل للمعايير الدولية التي وافق عليها لبنان في مجال الحقوق والحريات الخاصة بالمرأة والأطفال والفئات المهمّشة.

  •    التعامل بحزم وشفافية مع ممارسات العصور الغابرة المرفوضة في دولة القانون مثل التعذيب والتوقيف الاعتباطي واتخاذ الاجراءات الرادعة لها، وأخذ الشكاوى في شأنها بعين الاعتبار، وعدم التهاون في معاقبة المسؤولين عنها.

  •   التواصل مع المؤسسات التطوعية ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان، وإقامة تعاون بين أجهزة الدولة وتلك المنظمات، والتأكيد على دورها في رصد انتهاكات حقوق الإنسان، ووضع توصيات تفضـي إلى حلول، والتثقيف في مجال حقوق الإنسان ومراقبة أداء السلطة.

  •    ضمان حرية التقاضي والحق في المحاكمة العادلة، منعاً للشعور بالظلم والغبن وعدم المساواة والاستقواء بعلاقات الخصوصية التي تحمي انتهاك الأعراف والقوانين.

خامساً – سيادة القانون واستقلال القضاء

١٠. الدولة القائمة على سيادة القانون هي الضمانة لتحقيق حرية الإنسان وحقوق المواطنين، وأساس النظام الديموقراطي. ويورد الدستور (المادة ٢٠) أن “السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة. أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون. والقضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني”. تقوم دولة القانون على قيم منها احترام أسس القانون العالمية، والمساواة أمام القانون، وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وحرية التقاضي، وضمانة الدولة لتنفيذ القانون. ولا يقوم نظام حقوقي وهو من أسس النظام الاجتماعي بدون سلطة قضائية مؤتمنة على تطبيق النصوص الدستورية والقانونية. ولا تحقيق للعدالة إلّا عبر نظام قضائي يتسم بأعلى درجات الثقة والشفافية والنزاهة والاستقلالية. وفي هذا الإطار لبنان في حاجة إلى تشريعات تلحظ الثغرات في النظام القضائي، وتتوافق مع مبدأ دولة القانون ومعايير الدول الديموقراطية وتحتوي على البنود التالية:

  • توضيح العلاقة بين السلطات التشـريعية والتنفيذية والقضائية، بشكل جلي لتنفيذ مبدأ الفصل التام بين السلطات وتحقيق الرقابة والتوازن ما بينها.

  • اتخاذ التدابير اللازمة لجعل المجلس النيابي فعالًا في الأنشطة الرقابية إضافة إلى دوره التشريعي.

  • مراجعة كافة القوانين المعمول بها لتعديل ما لا يتفق منها مع النظام الدستوري، وإلغاء الأحكام التي تخل بحدود القانون.

  •  تنفيذ مبدأ إلزامية القوانين والدستور للجميع.

  •    مواءمة القسم الخاص بالحقوق الأساسية والحريات للمعايير العالمية.

  • التأكيد على استقلالية القضاة وضمان حياد النظام القضائي. فاستقلالية القضاء هي من أعمدة الفصل بين السلطات في الأنظمة الديمقراطية وهي التي تؤمِّن حيادية القرارات القضائية وعدم خضوعها لنفوذ فرعَيْ الدولة الآخرَيْن، التشريعي والتنفيذي، تُحَرِّرها من هيمنة الطبقة السياسية والمصالح الخاصة. ولضمان استقلالية القضاء شروط منها إبقاء القضاة في مناصبهم لأمد طويل – حتى مدى الحياة كما الحال في بعض الأنظمة، مثل قضاة المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف في الولايات المتحدة – وجعل عزلهم من مناصبهم أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً (وفي بعض الأنظمة يُنتخب القضاة والمُدَّعون العامون مباشرة من أهالي الدوائر التي تشملها مسؤولياتهم).
  • إعادة النظر بقواعد اختيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى – مثلاً كانتخاب عدد منهم من قبل الجسم القضائي وتوسيعه ليضم قضاة من ديوان المحاسبة ومجلس شورى الدولة بما يسمح بتواجد القضاءين الاداري والمالي في المجلس.

  •    الاختيار السليم للقضاة من ناحية المؤهلات المهنية والسلوك الحميدة والسمعة الشخصية الطيبة، وقد يكون من المفيد في هذا الصدد إشراك نقابة المحامين في مراحل الاختيار الأولى عبر التمحيص في السيرة الذاتية للمرشحين.
  • تحقيق إصلاحات من شأنها زيادة خبرة رجال القانون، بدءاً من تطوير تدريس القانون، مع تدريبًا تخصصيًا للقضاة والمحامين لرفع مستوى تخصصهم.

  • اعتماد مبدأ التخصصية بمعنى أن يكون القضاة متخصصين في مجالات محددة منها مثلاً الجريمة المنظمة، والمنافسة غير العادلة، والتأمينات، وجرائم العملة، وغسيل الأموال…

  • تجهيز المحاكم بالإمكانيات الحديثة، ووضع التشريعات اللازمة لتـسريع عمليات التقاضي لعدم التأخير بالمحاكمات باعتباره نوعا من أنواع الظلم.

  •   تأمين المخصصات الكافية من أجل رفع معايير الإداء الخاصة بالخدمات القضائية وسرعتها.

  • تأمين الظروف اللائقة بموقع القضاة وعملهم بما فيه الدخل المناسب والعيش الكريم والحماية لمن قد يغدو عرضة للتهديد.

  • مراجعة القوانين المتعلقة بالإجراءات القضائية، من أجل فاعلية النظام القضائي وأداء وظيفته واتخاذ القرارات المؤاتية، وتوسيع ملاك هيئة التفتيش القضائي وتفعيل دورها.

  •    تقوية استقلالية الأجهزة القضائية المشرفة على الانتخابات، وذلك مع الأخذ في الاعتبار خبرات الدول الديمقراطية في هذا المجال.

  •    تحديد الظروف لإصدار قوانين عفو عام لما يتركه ذلك من أثر سلبي في الضمير الجماعي من شعور في الغبن وتخطّي العدالة أو تغييبها.
  • تحديث مؤسسات السجون لإعادة تأهيل السجناء من أجل الانخراط في المجتمع وليس تحويل تجربة السجن الى عامل دفع جديد للامعان بارتكاب الجريمة.

سادساً – اللّامركزية الإدارية

١١.     أمام عجز السلطة المركزية، بل فشلها منذ إنتهاء الحرب العبثية على توفيرالخدمات الأساسية للمواطن، وإعادة تأهيل وتطوير المرافق العامة، ترسّخ الإيمان لدى الكثير من اللبنانيين أن الوقت حان لتطبيق مبدأ “اللاّمركزية الإدارية” الذي طرحته وثيقة الوفاق الوطني، وغدت بنظرهم الوحيدة القادرة لتحقيق ما جاء في مقدمة الدستور، دون إنجازات تُذكر حتى الآن، من أن “الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام”.

١٢. فالمبادرة لإرساء وتفعيل اللامركزية سياسة حميدة، كونها بالتصميم تعطي المواطنَ حقَّ وإمكانية إبداء الرأي وتُمكِّنه مزيداً من السيطرة على القرارات التي تتخذها السلطاتُ باسمه ولكن غالباً دون رأيه وليس دائما لمصلحته. ومع تطور أنظمة الحوكمة في المجتمعات الديمقراطية زاد دور الإدارات المحلية على حساب السلطة المركزية في الممارسات السياسية والإدارية، وأضحت الديموقراطية تُعرّف بجوانب مهمة لها باعتبارها نظام مشاركة وتعاون على جميع صعد ومستويات الدولة، حيِث غدت الإدارات والمجالس المحلية وحدات أساسية في تحقيق الشراكة.

١٣. أما في لبنان، فالتلكؤ في منح السلطات المحلية القدرة والإمكانية لتطوير أدوات وأساليب إدارتها بما يتناسب مع الاحتياجات المناطقية هي من المشكلات الأساسية المتعلقة بالحياة العامة. ولنقل مبادئ الديمقراطية وممارساتها القائمة على التشاركية والتعددية إلى السلطات المحلية في لبنان في المجالات السياسة والإنمائية والاجتماعية، من الضروري العمل بشكل دؤوب على:

  • إقرار مبدأ استشارة الإدارات المحلية قبل اتخاذ اجراءات تتعلق بمسؤولياتها.

  • تزويد الإدارات المحلية بالطاقة المالية الأساسية التي من شأنها أن تغطي بتنوعها ومستواها النفقات التي تلزمها لتنفيذ مهامها.

  • إرساء حقوق الإدارة المحلية داخل نظامنا الدستوري، وتطبيق جميع الاجراءات المعنية بما فيها حق الإدارات المحلية في الاحتكام إلى الدستور والقضاء.

  • الاعتناء بمبدأ المواءمة بين الإشراف والرقابة على الإدارات المحلية بما يتلاءم مع أهمية المصالح التي يتم السعي إلى حمايتها.

  •    السماح بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني في بعض أنشطة الإدارات المحلية وخاصة الاجتماعية والبيئية منها.
  •    عند اسْتِحْداث شبكة إدارات محلية على مستوى المناطق أو الأقضية، من الأساسي الفصل بدقة بين مسؤولياتها – الواسعة تبعاً لمشروع قانون اللامركزية الذي تمّ إعداده والتي تُغطّى مجملَ القطاعات باستثناء الدفاع والأمن – وصلاحيات البلديات القائمة حاليا، والتي قد يكون من الصعب انْتِزَاعُها أو تحجيمها في أي منظومة مقترحة للامركزية.
  •   الأخذ بمواقع الضعف المعروفة حيث تعاني المؤسسات العامة على المستوى الوطني من نقص حاد في أعداد الموظفين المؤهّلين، وعدم وفرة الطاقات الفنية والإدارية. فمن الضروري العمل لإيجاد المواهب والخبرات والقدرات الفنية للتوظيف في الكيانات المناطقية المستحدثة فلا تكون ركائزُها مؤسساتٍ هشَّة غير قادرة وغير فاعلة.

 

  • العمل على ألّا يُشكِّل صِغَرُ الوحدات المحلّية في إطار اللامركزية عقبةً جدّيةً أمام تنفيذ وأداء واقعِيِّيْن لمشاريع البنى التحتية والتنمية المحلية، والتزام مبدأ تفويض مسؤوليات توفير الخدمات العامة إلى المستوى التنظيمي والإداري الأدنى في تراتبية السلطات، أي الأقرب إلى المواطن، طالما أن تنفيذ المشروع وتأمين الخدمات العامة يمكن القيام بهما بفعالية وجدوى اقتصادية. وهذا مهم جداً في لبنان نظرا لصغره حيث قد تبرز صعوبات في تحقيق وفورات الحجم اللازمة لتقديم الخدمات بأكلاف واقعية ومحمولة. 

١٤.        وإن كان مبدأ اللامركزية الإدارية من صميم وثيقة الوفاق الوطني، هنالك في واقع لبنان، تكويناً ومساحةً، ما يجب الوقوف عنده كي تتمكّن اللامركزية من تحقيق الأهداف المنشودة على جميع الأصعدة، وألّا تشكِّل بمفاعيلها المالية والاقتصادية نقيضاً لمبدأ الإنماء المتوازن القائم لحدٍ مهم على إعادة توزيع الموارد الضريبية، وبالتالي جزءٍ من الثروة الوطنية، بين مختلف المناطق لمساعدة الأقل تطوراً ليلحق بقافلة الإنماء على امتداد مساحة الوطن. فنظراً إلى التفاوت بين مختلف مناطق لبنان الجغرافية من حيث مستوى التنمية، فإن من الضروري التخطيط بدقة فيما يخص تحويل جزء من واردات الخزينة إلى الكيانات المحلية وتكون معايير توزيع هذه التحويلات ما بين المناطق ملائمة لأهداف الإنماء المتوازن، بل داعمة لها، كي لا تؤول اللامركزية إلى توسيع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الكيانات المناطقيّة، ما قد يضعف اللحمة والتماسك الوطنيَّيْن الذي يجب العمل على تعزيزهما!